الكرامة محفوظة
كانت الحرب سجالا بين اهالي حوران فى جنوب سوريه وجيرانهم سكان جبل العرب فالخلاف على مراعى الاغنام لايحل الا فى معركة تسيل فيها الدماء وتنتهى بقتلى وجرحى ، او يقع شاب فى حب فتاه من الطرف الاخر فيرفض اهلها هذا الزواج غير المتكافىء ويخطفها فتبدء المعارك للحفاظ على الشرف الرفيع الذى لا يسلم اذا لم ترق على جوانبه الدماء من الطرفين ، دائما هناك سبب لمشاجرة او معركة
ذات يوم هاجم اهالي حوران احدى قرى الجبل واسروا ثلاثة من الشيوخ وعادوا بهم ليلا ، وفى الصباح ربطوا هؤلاء الشيوخ فى المحاريث بدل الثيران وحرثوا بهم الارض ثم اعادوهم الى بلدتهم ، واستقبل اهالي القرية شيوخهم العائدين من الارض وسألوهم ماذا حدث معهم
فأجاب كبيرهم الحقيقة انهم وضعوا الكدان فى رقابنا وحرثوا بنا الارض بدل الثيران لكن الشهادة لله كانت الكرامة محفوظة فقد كانوا يقولون للواحد منا من هنا احرث ياشيخ او تعال هنا ياشيخ فكلمة شيخ لم تسقط فى التعامل معنا ابدا
احتلت اسرائيل فلسطين بكاملها وهضبة الجولان وجنوب لبنان وبقيت كرامتنا محفوظة والحمد لله فلم يجرؤ احد من زعماء اسرائيل على ان يذكر اسم واحد من قادتنا او شيوخنا او رؤسائنا مجردا من لقبه دائما يقولون سيادة الرئيس فلان او جلالة الملك او صاحب السمو الشيخ فماذا نريد اكثر من ذلك
جورج بوش رغم انه الباب العالي حاليا وجميع ولاة الاقاليم فى شرق الارض ومغاربها يعينون بموافقته وفرماناته ، يضطر رغم انفه صاغرا الى ارسال وزير خارجيته الى العواصم العربية حاملا الرسائل ، بكل تهذيب يقف الوزير امام المسؤولين فى بلادنا خافضا رأسه يقول لهم ياسيادة الرئيس لقد كلفنى الرئيس بوش ان انقل اليكم تحياته وتقديره لدوركم الايجابي فى عملية السلام وهو يرجو منكم بما عرف عنكم انتم العرب من كرم وسخاء وجود ان تقبلوا بعدم البحث فى اعادة اجزاء من الاراضي المحتلة او اثارة موضوع الدولة الفلسطينية او القدس وحق العودة فى المفاوضات فبذلك تحرجون اسرائيل وتجبرونها على الجلوس الى مائدة المفاوضات العامرة بما لذ وطاب يشعر العربي بالاعتزاز امام هذا الاستخذاء الامريكاني فتأخذه النخوة ويستيقظ فى اعماقه تراث حاتم الطائي فى الكرم ومعن بن زائدة فى الحلم ، فالكرامة محفوظة والعرض اهم من الارض ، فهو قبل كل شىء ضيف لابد من اكرامه فاذا اخذت اسرائيل الارض ففى لندن وباريس وماربيا وكان ونيس اراض اخذناها نحن العرب بدراهمنا ، فليقل العالم وليشهد اننا قوم نشترى الدنيا بالمال اما اليهود فيكفيهم عارا انهم لصوص ، يشهد ببخلهم وتقتيرهم فالمهم ان تبقى كرامتنا محفوظة ، فهى الخط الاحمر الوحيد الذى نحرص عليه اما المال والارض فهى اعراض زائلة
كان مقهى دوغان فى بيروت الغربية من المقاهي الشعبية الشهيرة ، رواده من القبضايات ووجهاء الاحياء والزكرتيه يجلسون مساء وامام كل منهم اركيله وكان ابو العبد البيروتي واحدا من هؤلاء القبضايات المداومين على المقهى ، وعند هؤلاء كل شيىء مسموح الا ان تشعل سيجارتك من جمر اركيلته فهذه اهانة لا تعادلها اهانة لكن واحدا من الظرفاء خرق هذه القاعدة وراهن الجميع انه سيشعل سيجارته من اركيلة ابو العبد وقبل رفاقه الرهان ، فتوجه الرجل نحو ابو العبد وكل الانظار متعلقة به لترى كيف سيتحدى عقيد القبضايات ويشعل سيكارته من اركيلته وماذا ستكون النتيجة وحيا الرجل ابو العبد بكل تهذيب وطلب منه السماح بالجلوس معه لأستشارته فى مسألة خاصة فقال له تفضل اهلا وسهلا ، وبدء الرجل حديثه قائلا ياعمي ابو العبد ليس لى غيرك اشكو له والشكوى لله وانا اكاد اموت مما انا فيه تصور اننى علمت مؤخرا اننى لقيط وان امى الحقيقية كانت عاهرة ووالدى كان قوادا وشقيقاتي سرن على هذا الطريق ايضا ولا اخفى عليك يا عمى ابو العبد اننى ايضا سرت على طريق والدي ، والله اننى حزين واود ان ادخن سيجارة قبل ان اكمل شرح مأساتي واخرج الرجل لفافه وراح يشعلها من اركيلة ابو العبد ، وصعق ابو العبد وقال له : هل اقول لك ياابن العاهرة انت قلتها عن نفسك هل اقول لك يا قواد انت ايضا قلتها عن نفسك هل اضربك فيقال اننى ضربت مثلك اغرب عن وجهي .
ماذا نستطيع ان نقول للانظمة العربية المتحكمة بمقادير العالم العربي اكثر مما قاله ابو العبد لهذا الرجل فهذه الانظمة قالت فى نفسها وافعالها ما لم يقل مالك فى الخمر لكنها غير ملومة فى ذلك لأنها جزء من هذه الشعوب الخانعة الراضية بهذا العهر هذه الشعوب التى اصبح الذل والاذلال عطرا تتطيب به صباح مساء .
ولقد كان يهون الخطب لو ان المعارضات العربية لهذه الانظمة فيها بقية من كرامة او حد ادنى من شجاعة للتصدى للقمع العربي المستشري ، هذه المعارضات ، اقول بمرارة وحسرة هى وجه العملة الآخر لهذه الأنظمة وامتدادها الضروري اللازم لبقائها على قيد الحياة ، انها مجموعة من السماسرة تشرب مع انظمتها من ذات النبع ، والا كيف نفسر اجتماع المعارضين العراقيين مثلا بمن فيهم اهل اليسار والماركسيين تحت المظلة الاميريكية ، وكيف نفهم انضواء فصائل المعارضة السورية تحت مظلة الأنظمة القمعية الأخرى
هذه الحقبة التى تمر بها الشعوب العربية اسقطت ورقة التين عن جميع العورات وتكشفت سوءات الانظمة والمعارضة ولم يبق امام الشعوب غير ان تأخذ مصيرها بأيديها دون وكلاء ، فجميع هؤلاء الوكلاء والأوصياء خانوا الأمانة وحولوا السياسية الى مستنقع عفن ، ونحن رغم الظلام الذى يلف الوطن من جهاته الست لا زلنا نؤمن بها