الحضارة الغربية
٠٠ الفكرة والتاريخ" يكشف نقاط ضعف المارد العجوز
الشعوب
المستضعفة ستصنع التاريخ أمام تراجع حضارة الغرب
فكرة صدام
الحضارات تستند على فكرة أحادية القوى واحتكار الثقافة والعلوم
تأليف : توماس
س. باترسون
وفي الختام
يحمل الكتاب دعوة لمفكري العالم لكي يعززوا الفكر التحرري الذي يحمل فكر ما بعد
الاستعمار وأن يعلموا على صياغة إطار فكري إنساني جديد، وإعادة كتابة التاريخ في
تساويه مع جهود التحول الحضاري الذاتي والأصيل ليكتمل ويصدق نداء "لنحرر
عقولنا"....
ونتيجة لذلك
أطلق زعيم أفريقي نداء قويا في مؤتمر مناهضة العنصرية المنعقد في ديربان في جنوب
أفريقيا خلال شهر أغسطس 2001 تحت عبارة " لنحرر عقولنا.." لتحمل هذه
العبارة الكثير من المطالب وكل ما يتصل بحياة الإنسان.
ولقد تناول
توماس س. باترسون في كتابه الحضارة الغربية الفكرة والتاريخ والذي قام بترجمته
شوقي جلال في إطار المشروع القومي للترجمة للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تاريخ
اختلاف الغرب لفكرة الحضارة لتأكيد التمايز ليبرر عملاؤه الاستعمارية العدوانية ضد
الشعوب الأخرى لاستعمار البلاد ونهب ثرواتها ونهب أهلها وبيعهم رقيقا.
ويمثل توماس س.
باترسون واحدا من أبرز مفكري التيار الحر المتحرر، وتمثل مؤلفاته كشفا لزيف فكر
المركزية الغربية والتصدي لها وبيان أنه فكر ذرائعي مناقض لحقائق التاريخ، وأنه
استهدف تزييف وعي الشعوب لتيسر سبل الهيمنة.
ويتميز أسلوب
المؤلف في كتابه بالاتجاه النقدي لآراء المفكرين الذين نادوا بفكرة الحضارة مع
تحليل هذه الآراء وبيان ما فيها من حق وباطل.
ويكشف الكتاب
عن هلامية فكرة الحضارة لدى مفكري الغرب والصراع، بينهم حول تحديد معناها والموقف
منهما، ويعرض المؤلف نظرة تاريخية نقدية مستشهدا بنصوص مفكري الغرب الذين يحملون
لواء التوجه العنصري ليميزوا أنفسهم عن بقية شعوب العالم التي تمثل في وجهة نظرهم
خطرا على الجنس الأبيض، وعلى الحضارة، ولكن أحداث التاريخ تؤكد أن الشعوب
"غير المتحضرة" في طريقها لاستعادة أملاكها والتحكم في مصيرها.
ويعرض الكتاب
موضوع الحضارة التي تعني الترتيبات الهرمية الاجتماعية والثقافية وما تنطوي عليه
من تفاوت وظلم، كما يتناول نتائج الدرب على النظر إلى العالم بعيون النخبة، كما
عارض أنصار الحضارة فكرة، وجود مجتمعات لا طبقية أو تصور علاقات اجتماعية قائمة
على المساواة.
ولقد استكشف
المؤلف في كتابه فكرة الحضارة وتداخلها مع أفكار أخرى مثل الثقافة والتخلف والتقدم
والحداثة والتاريخ والتراث والطبيعة، وهذه جميعها تهدف إلى تأكيد مشروعية
التراتبية الهرمية الاجتماعية.
ولقد ركز
الكتاب على تطور فكرة واحدة فقط عن الحضارة، هي الحضارة الغربية تحديدا التي بدأت
صياغتها الافتراضية في أوروبا في عصر النهضة، ثم أعيد تهذيبها في عصر التنوير على
أيدي المعلقين الاجتماعية في شمال أوروبا خلال القرن الثامن عشر.
وقد صاغ
المفكرون أبناء النخبة فكرة الحضارة الغربية وسلموا بوجود حضارات أخرى كالسامية
وحضارات الصين، بيد أنهم مع هذا ذهبوا إلى أن أيا من هذه الحضارات لم يبلغ إنجازات
حضارة الغرب في روما أو اليونان القديمة والمجتمعات التي هي من سلالة هذا التراث.
ويكشف المؤلف
عن جذور مفهوم الحضارة الذي اختلقه الغرب، ليقهروا بها عقول المستضعفين، ويغرس في
نفوسهم مشاعر الدونية دفاعا عن مكانته وعن تفرده بالقوة والسلطان، وهربا من
التفسير الاجتماعي العلمي لأسباب التخلف.
وقد اعتمد
المؤلف في دراسته لفكرة الحضارة على حصاد غني طويل الأمد من دراسات أكاديمية
متميزة في علم الأنثروبولوجيا، ويتخذ من دراساته شاهدا على اطراد سياسة التمييز
العنصري فكريا عند الغرب، والسياسي تأسيسا على مزاعم تحمل زيف صفة الفكر
الأكاديمي، ولقد اقترنت هذه المزاعم بصعود قوى الرأسمالية في عصر الصناعة واطردت
لتكون دعامة لما يسمى "العالم الحر المتقدمة".
ولكن مع نهاية
الاستعمار تحررت الشعوب وظهرت التعددية الثقافية وشرعت الشعوب المستضعفة في استردد
حقوقها وظهرت بعض المباني الجديدة التي تؤكد حق الشعوب في البقاء في محيط إنساني
عادل وكفء مع إدانة أساليب التمييز العنصري والاستحقاق في الماضي.
ولاقت كلمة
الحضارة اهتماما منقطع النظير من وسائل الإعلام ، وأن المجتمع لكي يكون بخير لابد
أن يكون متحضرا، وأن الشعب المتحضر شعب مهذب كيس وأكثر ثراء وسعادة، ولكن بعض
المشكلات كالجريمة والعنف وانحطاط المستوى التعليمي وتفسخ القيم مشكلات تواجه
الحضارة .
ومن الحضارات
التي تواجه هذه المشكلات الحضارة الأمريكية، حيث تواجه التحلل الحضاري نتيجة
لثقافة العنف وثقافة الفقر حيث يجسدان عادات وقيمنا هي نقيض العادات والقيم
اللازمة.
وفي هذا الصدد
يحذر نيوت جنجريتش "المتحدث باسم مجلس النواب الأمريكي" يستحيل الحفاظ
على حضارة أبناؤها ينجبون أطفالا وهم في الثانية عشرة من العمر، ومن هم في الخامسة
عشرة يقتلون بعضهم بعضا ومن هم في السابعة عشرة من العمر يموتون بالإيدز، ومن هم
في الثامنة عشرة يحصلون على دبلومات لايستطيعون قراءتها بالكاد .
كما تواجه
الحضارة الأمريكية خطر التنوع الثقافي الذي ظهر في أواخر القرن العشرين نتيجة
الهجرات الواسعة لأمريكا، ونتيجة حركة الحقوق المدنية التي طالبت بالمساواة في
المعاملة والحقوق بالنسبة للنساء والأقليات.
كما تشكل
التكنولوجيا أكبر التهديدات التي تواجه الحضارات، حيث تحمل قيما وثقافات قد تضعف
من خصوصيات الحضارات.
ولقد استعرض
المؤلف الكثير من الآراء في دراسته للحضارة وجذورها، ومن هذه الآراء رأي هنتنجتون
صاحب نظرية صراع الحضارات.
ويرى هنتنجتون
أن الحضارات عبارة عن كيانات ثقافية سوف يكون لها أهمية متزايدة باطراد في
النزاعات الراهنة والمقبلة، كما يرى أن لها أهمية متزايدة باطراد في النزعات
الراهنة والمقبلة، كما يرى أن الحضارة الغربية هي الحضارة الكونية بينما غيرها حضارات
إقليمية ويحدد معنى الحضارة على أساس الفوارق الثقافية، ومن ثم تظهر عنده فوارق
حقيقية بشأن اللغة والثقافة والتقاليد، ثم الدين الذي يراه القسمة الأهم في تمييز
حضارة عن غيرها.
ويعتقد
هنتنجتون أن الصراع القادم هو صراع بين الحضارة الغربية والعالم غير الغربي الذي
يضم أجزاء متحضرة.
ويذهب
هنتنجتون أن مواطني بلد ما يمكنهم إراديا إعادة تحديد هواياتهم الحضارية، تتضمن
بناء الهوية في إطار من الملابسات والظروف التاريخية والاجتماعية المميزة.
ويرى أن
النخبة السياسية والاقتصادية تهيئ قوة الدفع لتغيير أو لإعادة تحديد الهوية
الحضارية.
وتتعدد الآراء
حول نشأة الحضارة، فالبعض يرى أنها نشأت بفضل جهد الناس لتحويل الطبيعة لكي يحسنوا
من أنفسهم ومن ظروف معيشتهم ويرى آخرون أنها موروثة، ويذهب فريق ثالث إلى أن
الحضارة مغروسة متأصلة في العلاقات الاجتماعية، ويرى غير هؤلاء أن الحضارة تعبير
عن حالة تفوق بيولوجي.
ومن الأسباب
التي أدت بعث فكرة الحضارة، أنها تمثل عناصر مهمة وضرورية في المناخ الأيديولوجي
المرتبط بعمليتي تكوين الطبقة والدولة، وقد شكلت فكرة الحضارة جانبا رئيسيا من
الأيديولوجيا التي اقترنت بصعود الدولة الأوروبية الحديثة ووطدت أركانها.
وتكمن في رحم
فكرة الحضارة نظرية عن التاريخ حاولت تفسير ما سمي بالتغيرات التقدمية المطردة من
وضع بدائي إلى وضع أكثر تقدما عن طريق التقدم الأخلاقي والفكري والاجتماعي، ولقد
صيغت فكرة الحضارة في مجتمعات يسيطر على طبقاتها هوس التراتبية الهرمية وأرادت
اطراد وأبدية مظاهر عدم المساواة.
وقد التمس
مفكرو الطبقة الحاكمة سبيلا لكي يفسروا لأقرانهم كيف نشأت علاقات القوى القائمة،
وزودوا تفسيراتهم بتفسيرات تاريخية لتطور المجتمعات المتمايزة طبقيا، والتي أنصفت
بخصائص سيادة القانون والفنون والآداب المتقدمة وانحسار التقليد، وأكدوا أن
أخلاقيات وسلوكيات الطبقات العليا لهذه المجتمعات أرقى من الطبقات الأخرى غير
المتعلمة في هذه المجتمعات ذاتها، ومن أبناء المجتمعات غير الطبقية التي تعيش على
الطبيعة.
كما عمد مؤيدو
الحضارة الغربية وأنصارها منذ القرن السابع عشر إلى النظر إلى مجتمعاتهم باعتبارها
أكثر تقدما من مجتمعات العالم القديم، والتمسوا تحديد تفسير القوى المحركة
المسؤولة عن تطور المجتمع الرأسمالي ، وما فتئت النظريات الرائجة الآن عن الحضارة
بما في ذلك آراء نيوت جنجريتش تؤكد على قسماتها الإيجابية – أي التحسن المادي
والتقدم والحداثة، وعلى الأوضاع التي تدعمها، ولكن القسمات السلبية فقد صوروها على
أنها ظواهر عابرة يتمكن القضاء عليها إما عن طريق إزاحتها عن مجال رؤيهم أوعد عن
طريق بناء السجون والمعتقلات ليودعوا فيها القطاعات السكانية التي لم تفد من تطور
الحضارة الرأسمالية المرتكزة على أسلوب حياة استهلاك السلع.
ولكن هناك من
انتقد الحضارة والدولة معا، وقاموا بالكشف عن القسمات السلبية والتناقضات، ومن ثم
ازداد شكهم باطراد بشأن منافع الحضارة الغربية التي قيل إنها جلبتها منذ بزوغها.
وقد دار على
هامش الحديث عن الحضارة نقاش ساخن بين الفلاسفة حول العديد من القضايا المرتبطة
بالحضارة وعوامل تقدمها وتحللها، ومن أبرز هذه القضايا النقاش حول دور العقل
والعلم وبدايات الحداثة، فقد اعتقد بيكون أن العقل مجال النخبة ومن ثم هم القادرون
على الانتقال إلى عصر جديد في تاريخ البشرية عصر تكتسح فيه العقلانية التقليد.
ورأى كل من
بيكون وديكارت أن نمو العقل هو المحرك للتقدم، وميَّز بين الأمم الحديثة في شمال
أوروبا وبين أسلافها، وكذلك بين أمم الهمج المعاصرة.
وقد استعرض
المؤلف الكثير من صور المجتمع المرتبطة بالحضارة كالمجتمع المدني والمجتمع التجاري
والمجتمع الصناعي، وأنها جميعا وصف للنظام الاجتماعي الجديد المرتبط بالحداثة.
ولقد نتج عن
تطور الحضارة تطور اجتماعي، وظهر ما يعرف بالتطوريين الاجتماعيين من أمثال هربرت
سبنسر ولويس هنرى مورجان، ومن أبرز آرائهم.
أن العالمين
الطبيعي والبشري يخضعان لقوانين التطور ذاتها وهمي قوانين لا تقبل التغير، وقد
حددوا التقدم بأنه تغيير هادف، ولكن اعتقدوا أن التطور غير متساو بمعنيين اثنين،
فالمجتمعات والسلالات المختلفة تتقدم بسرعات مختلفة، وأن وتيرة تطور مجتمع بذاته
تختلف باختلاف مراحل تطوره، ومايزوا بين المجتمعات المتحضرة وبين تلك التي تفتقر
إلى مؤسسات الدولة والهياكل الطبقية، وزعموا بأن الأولى أسمى أو أكثر تقدما من
الثانية واستخدموا هذا الزعم لتأسيس ودعم زعم آخر: أن هناك تراتبيات هرمية
اجتماعية وثقافية وعرقية.
وقد ظهرت فئة
أخرى تردد أفكار ونظريات سبنسر ودرامية وذلك باعتقادهم أن الحضارات ابتدعها أبناء
النخبة الذين نجحوا في معرفة كيف يهيمنون على الطبقات والمجتمعات التابعة، وتناغمت
آراؤهم في الولايات المتحدة حتى كادت تتطابق مع آراء السياسية ورجال الأعمال.
كما ارتبط
النمو الاقتصادي بالتطور الاجتماعي والحضارة، وظهر ما يعرف بالتحديث الذي يعتبر
عملية توسعية أو عولمة سوف تدمج المزيد من المناطق الجغرافية عن العالم الثالث
لسيطرة العالم المتحضر، وهو يمثل جهدا لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والثقافية
الرأسمالية في بلدان العالم الثالث، فقد ظهرت الحداثة أولا في المجالات الاقتصادية
والسياسية إلا أنها سرعان ما بلغت أعماق المجتمع التقليدية وأثرت على كل شيء فيها.
ولقد لاقت
نظرية التحديث انتقادات واسعة، ثم ظهرت نظرية التلاقي التي نظرت إلى الاقتصاد
والسياسة والثقافة كل على حدة في انفصال عن بعضها.. لكن سرعان ما أسقطت نظريتا
التحديث والتلاقي كسبيلين لوصف التنمية، وذلك في مطلع القرن العشرين، ولكن عادت
إلى الحياة مرة أخرى نظريتا التحديث والتلاقي عقب تفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر
ثمانينيات القرن العشرين.
ولقد لاقت
الحضارة انتقادات متعددة لها وللوسط الذي ظهرت فيه، وبدأ النقاد في صياغة تقييمات
تخلو من الإطراء للحضارة الغربية في القرن السادس عشر، أي في الوقت الذي ابتكر فيه
فكرة الحضارة دعاة ومشرعو المجتمعات المنظمة تراتبيا وثقافة الطبقة الحاكمة.
ومنذ أربعيني
ات القرن
السادس عشر فصاعدا ، ارتاب نقاد الحضارة وتساءلوا عما إذا كان الحضارة والثقافة
والأخلاق في البلدان الأوروبية أرفع مرتبة عن نظيراتها لدى الشعوب غير الأوروبية
الذين التقوا بهم في المستعمرات، وأفاد النقاد بالدراسات الاثنوجرافية عن هذه
الشعوب وأيضا عن فلاحهم للطعن في ادعاء تفوق الطبقات والدول المتحضرة، وعمد أكثر
النقاد إلى وضع خط فاصل متميز بين الحضارة والثقافة.
ومن جانب آخر
زعم أبطال الحضارة أن مؤسسات وممارسات الطبقات الحاكمة والدولة أمور مرغوب فيها
وضرورية لأنها تحافظ على النظام، ودفعوا بأن القيم والممارسات التي تغرسها مؤسسات
النخبة والدولة تفرز دور العقل وتدعم العقلانية اللازمة للتغلب على الحدود والقيود
التي تفرضها الطبيعة والمعتقدات التقليدية ، وقالوا بأن عملية التحضر تجعل العالم
مكانا أفضل للعيش فيه.
ولكن النقاد
أدركوا أن ظهور الحضارة عملية تعج بالمتناقضات، كما شرعوا في توجيه الاتهامات ضد النظام
الاجتماعي، وأدانوا من ناحية أسلوب تعامل الحضارات مع رعايا المستعمرات وجرموا
ممارسات الإبادة للأعراق والأجناس، وحددوا بعض المعضلات التي صاحبت ظهور الحضارة:
زيادة الظلم مقترنة بزيادة مطردة لمشاعر الاغتراب ، وتفاقم مظاهر البؤس وقطع
الرغبات واستكشفوا الفوارق الثقافية التي تفصل الشعوب المتحضرة عن غير المتحضرة
لبيان بربرية الحضارة ذاتها.
وعمد النقاد
في الغالب إلى نسج ضفيرة من الخطية معا، وصاغوا خلال هذه العملية دراسات نقدية
كاسحة تزايدت باطراد ضد النظام الاجتماعي الجديد، وتبين أن هناك دائما معاني كثيرة
بديلة لمصطلح الحضارة، وكان لكثرة هذه الآراء أثرها الواضح من حيث إنها تعبر عن
مشاعر الناس الذين يرون عالمهم بصورة مغايرة عن صورة من يحتلون سلم الترتيبات
الاجتماعية المختلفة التي أبرزتها الحضارة الغربية وتحرص على تخليدها.
ويمثل نقد
روسو للنظام الاجتماعي البازغ، ولايزال، حكما كاسحا للحضارة، كما تحدى المزاعم
القوية عن المنافع المدعاة التي نحصدها عن طريق غزو الطبيعة وتطوير حضارة صناعية
متنامية، كما أنه قام بلفت الأنظار إلى القيم التي ضاعت وفقدها العالم مع ظهور
الحضارة التي جلبت معها عدم المساواة والاغتراب.
كما عمد
النقاد الاجتماعيون الألمان إلى بذل المزيد من الجهد المخلص للحفاظ على التمييز
بين الثقافة والحضارة وفاقوا في هذا معاصريهم من الفرنسية والإنجليز والأمريكيين.
ولقد رأى كل
من كارل ماركس و انجلز أن الحضارة شكل مميز للمجتمع يتصف بخصائص محددة وهي
التقسيمات الطبقبة وجهاز دولة يعمل على الحفاظ على علاقات عدم المساواة القائمة
وشرعا في نقد الحضارة الرأسمالية خلال أربعينيات القرن التاسع عشر.
وأبرز ماركس
وانجلز أن الرأسمالية هي آخر شكل للحضارة ، ولكن لم يقدمه ماركس أو انجلز تخطيطا
تفصيليا لبدائل عن الحضارة الرأسمالية ولا كيف يتأتى إنجازها، ولكنهما استطاعا أن
يدركا أن تقدما اجتماعيا سوف يتحقق وسوف ينطوي بالضرورة على صراع، واستخدم كلاهما
مراراً فكرة العود الجدلي، والتي تتجلى في أوضح صورها في شكل الشيوعية.
وقد اتجه
ماركس وانجلز باهتمامها إلى المجتمعات المشاعية البدائية والأولى قبل الرأسمالية
في أعوامها الأخيرة والتي توافقت مع انفجار توسع أوروبا الإمبريالي في أفريقيا
وأمريكا اللاتينية وفي الباسيفيكي وفي الأقاليم الهندية داخل أراضيها.
أما موقف
الليبرالية من الحضارة، فيدور تساؤل عن نوع المجتمع الآخذ في التبللر خلال منتصف القرن
التاسع عشر وقتما أعلن الداروينيون الاجتماعيون حتمية قيام حضارة وحدوث تقدم
محورها الغرب، وقد صاغ النقاد الليبراليون رؤاهم تأسيسا على استبصارات ستيورات مل
بشأن تناقضات الحضارة الغربية ، وتزايد إيمانهم بأن التقدم النجم عن إنتاج الثروة
ليس سوى وهم تفاؤلي، وأوحت لهم حالات الركود الاقتصادي الشديدة، ونتيجة لهذه
الدورات امتلأت قارات الدنيا بأطلال الأمم والحضارات المندثرة.
ومن أبرز
الذين تحدثوا عن الحضارة فرويد الذي رأي أن الحضارة تشمل على استخدام العلم
والتكنولوجيا وكبح جماح الطبيعة، وكذلك من أجل ملاءمة العلاقات الاجتماعية مع
النظام الاجتماعي.
وذهب فرويد
إلى أن المشكلة الرئيسية التي تواجه الحضارة المعاصرة ظلت داخل مجال العلاقات
الاجتماعية، وتوصف نظرة فرويد تجاه البنية الطبقية للحضارة بالتشاؤمية.
وقد اتخذ بعض
النقاد موقفا من الدين المنظم، واستمدوا صورا من فصول الكتاب المقدس التي تصف
أعمال الرسل والمجتمعات التي استلهموها، في حين قام آخرون ببناء نقاسهم للاستغلال
والقهر في ضوء ثقافة أو نظرية اجتماعية اقتصادية سياسية، بينما أكد الرومانسيون
القوميون على دور الإبداع والعفوية، واعتقد الناقد الليبراليون التأكيد على الخطر
الذي يسببه الاستغلال بالنسبة للحفاظ على النظام الاجتماعي وأكد النقاد المتشددون
الراديكاليون على حالة الاستغلال والعلاقات الاجتماعية غير المتكافئة داخل المجتمع
والتي ظهرت خلال هذا الوقت ذاته، وركز النقاد الثقافيون للحضارة على الحداثة، وعلى
أنشطة دعاة وأنصار الحضارة والتي بدأت قرب نهاية القرن التاسع عشر.
وقد تناول
المؤلف عددا من الفئات المتباينة للشعوب غير المتحضرة التي ابتدعها ورودها دعاة
مفهوم الحضارة بغية واختفاء شرعية على التراتبيات الاجتماعية ومظاهر عدم المساواة
والظلم في المجتمع التي هي نتيجة نشوء الوضع الطبقي والدولة في المجتمعات،
واستخدمت الطبقات الحاكمة هذه الفئات لتمييز نفسها عن الطبقات والطوائف التابعة
لها.
ولقد ابتكر
الخطباء السياسيون وكتاب المسرح في اليونان أول الأمر فكرة البربري استجابة ضد خطر
الدولة الفارسية، وسرعان ما وسعوا من نطاق الفكرة لتشتمل على النساء والعبيد بل
واليونانيين غير الاثينيين الذين اعتادوا أن يسلكوا سلوكا تراه الطبقة الحاكمة من
رجال أثينا سلوكا ملائما، ووسعت الطبقة الحاكمة الرومانية نطاق مصطلح البربري إلى
مدى أبعد حتى بات يصف عادات وأعراف وسلوك الطبقات الخاضعة لهم من أبناء جلدتهم.
ويعد الجانب
الأكبر من المشروعية التي تحظى بها هذه الفكرة اليوم من ابتكار السلطات المرجعية
القديمة واستخدامهم لهذه الفكرة، إذ ظلت هذه السلطات مرجعا موضع الاعتبار في وقتنا
الراهن.
ويستخدم
النقاد المعاصرون أفكار ومرجعية الكتاب الأوائل لبناء وتسلسلات أنساب لمزاعمهم
ولإخفاء مشروعية على آرائهم، ويحاول كذلك النقاد الاجتماعيون كذلك إخفاء المشروعية
على مظاهر عدم المساواة في مجال الطبقات والجنوسة والقهر الطبقي، إذ يزعمون أن
الفوارق الناشئة اجتماعيا إنما هي في الحقيقة ضاربة بجذورها في الطبيعة بعامة أو
في الطبيعة البشرية، ويؤكدون أن الاختلاف وضع طبيعي ومن ثم لا داعي لمحاولة علاج
المظالم والتفاوتات في المجتمع.
*ويلجأ نقاد
كثيرون إلى هذه المزاعم بغية دعم، وتأييد السياسات والممارسات التي تزيد وتفاقم
عمليا مظاهر عدم المساواة الاجتماعية.
ومن جانب آخر
اتخذت الكثير من الطوائف والطبقات موقف الطعن والتحدى لجهود الدولة والطبقات
الحاكمة من أجل توصيفهم ووضعهم في إطار تصنيف فئوي، وحاول الكثير من الكتاب نزع
قشرة الكياسة والثقافة بغية كشف حقيقة الاستغلال والقهر اللذين يمثلان قاعدة
العلاقات التراتبية الهرمية داخل المجتمع المتحضر.
وقد دفعت
الطبقات الحاكمة والعاملون المثقفون مرارا وتكرارا بأن التراتبيات الاجتماعية
والثقافية في المجتمع المتحضر أمر طبيعي.
ولكن على
الرغم من هذا برهن أبناء الطبقات والطوائف التابعة على أنهم يعرفون جيدا حقيقة هذه
التراتبيات.
لقد بدأت
الشعوب المستضعفة تحتل مكانتها على الساحة العالمية، مما جعل الغرب يعمل بكل ما
أوتي من قوة وغطرسة وما يروجه من فكر زائف أن يواصل إحكام قبضته على فكرة وعمل هذه
الشعوب، فالغرب ما زال ينظر إلى نفسه باعتباره "الجنس الأبيض المتميز"
وأن بقية الشعوب فريسة مستباحة له.